قال الله تعالى “ قل أعوذ برب الناس ملك الناس “ السورة بكمالها هذه السورة مشتملة على الاستعاذة من الشر الذي هو سبب الذنوب والمعاصي كلها وهو منشأ العقوبات في الدنيا والآخرة فسورة الفلق تضمنت الاستعاذة من الشر الذي هو ظلم الغير له بالسحر والحسد وهو شر من خارج وسورة الناس تضمنت الاستعاذة من الشر الذي هو سبب ظلم العبد نفسه فهو شر من داخل فالشر الأول لا يدخل تحت التكليف ولا يطلب منه الكف عنه لأنه ليس من كسبه والشر الثاني يدخل تحت التكليف ويتعلق به النهي والوسواس فعلال من وسوس وأصل الوسوسة الحركة والصوت الخفي الذي لا يحس فيحترز منه فالوسواس الإلقاء الخفي في النفس ولما كانت الوسوسة كلاما يكرره الموسوس ويؤكده عند من يلقيه إليه كرر لفظها بازاء تكرير معناها واختلف النحاة في لفظ الوسواس هل هو وصف أو مصدر على قولين وأما الخناس ففعال من خنس يخنس إذا توارى واختفى ومنه قول أبي هريرة فانخنست منه وحقيقة اللفظ اختفاء بعد ظهور فليست لمجرد الاختفاء ولهذا وصف بها الكواكب وقوله “ يوسوس في صدور الناس “ صفة ثالثة للشيطان فذكر وسوسته أولا ثم ذكر محلها ثانيا في صدور الناس وتأمل حكم القرآن وجلالته كيف أوقع الاستعاذة من شر الشيطان الموصوف بأنه “ الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس “
ولم يقل من شر وسوسته لنعم الاستعاذة شره جميعه فإن قوله “ من شر الوسواس “ نعم كل شره ووصفه بأعظم صفاته وأشدها شرا وأقواها تأثيرا وأعمها فسادا وتأمل السر في قوله “ يوسوس في صدور الناس “ ولم يقل في قلوبهم والصدور هي ساحة القلب وبيته فمنه تدخل الواردات عليه فتجتمع في الصدر ثم تلج في القلب فهو بمنزلة الدهليز ومن القلب تخرج الأوامر والإرادات إلى الصدر ثم تتفرق على الجنود ومن فهم هذا فهم قوله تعالى “ وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم “ فالشيطان يدخل إلى ساحة القلب وبيته فيلقى ما يريد إلقاءه إلى القلب فهو يوسوس في الصدر وسوسته واصلة إلى القلب ولهذا قال تعالى “ فوسوس إليه الشيطان “ ولم يقل فيه والله أعلم وقال القاضي أبو يعلى “ الوسواس “ يحتمل أن يفعل كلاما خفيا يدركه القلب ويمكن أن يكون هو الذي يقع عند الفكر ويكون منه مس وسلوك وذهول في أجزاء الإنسان ويتحفظه وهذا ظاهر كلام أحمد في رواية بكر بن محمد هو يتكلم على لسانه خلافا لبعض المتكلمين في إنكارهم سلوك الشيطان في أجسام الإنس وزعموا انه لا يجوز وجود روحين في جسد فإن قيل كيف يصح سلوكه في الإنسان وتحفظه له وهو من نار ومعلوم أن النار تحرق الآدمي قيل النار لا تحرق بطبعها وإنما يحدث الله تعالى فيها الإحراق حالا فحالا فيجوز أن لا يحدث فيها الإحراق في حال سلوكه فإن قيل يحمل قوله عليه الصلاة والسلام يجري من ابن آدم مجرى الدم يعني وساوسه تجري منه هذا المجرى كما قال تعالى “ وأشربوا في قلوبهم العجل “ معناه حبه قيل لو لم يدخل في جوف الإنسان لم يحس بوسوسة لأنه لا يجوز أن يحس بكلام أو وسوسة خارجة من جسمه إلا بصوت يسمعه بإذنه وليس للشيطان صوت يسمع فهو بمثابة حديث النفس فإن قيل فيقولون للشيطان سبيل إلى تخبيط الإنسي كما له سبيل إلى سلوكه ووسوسته وإنما يراه من الصرع والتخبط والاضطراب من فعل الشيطان قيل لا نقول ذلك لما بينا من قبل استحالة فعل الفاعل في غير محل قدرته بل ذلك من فعل الله تعالى معه يجري العادة فإن كان المجنون قادرا على ذلك كان كسبا له وإن لم يكن قادرا كان مضطرا.